فصل: تفسير الآيات رقم (254- 255)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏238‏]‏

‏{‏حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ‏(‏238‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حافظوا‏}‏ أي داموا وواظبروا ‏{‏على الصلوات‏}‏ يعني الخمس المكتوبات أمر الله عز وجل عباده بالمحافظة على الصلوات الخمس المكتوبات بجميع شروطها وحدودها وإتمام أركانها وفعلها في أوقاتها المختصة بها ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ تأنيث الأوسط كل شيء خيره وأعدله وقيل الوسطى يعني الفضلى من قولهم للأفضل أوسط وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل وقيل سميت الوسطى لأنها أوسط الصلوات محلاً‏.‏

فصل في ذكر اختلاف العلماء في الصلاة الوسطى

قد اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى على مذاهب‏:‏ الأول أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس، وبه قال مالك والشافعي، ويدل على ذلك أن مالكاً بلغه أن علي بن أبي طالب وابن عباس كانا يقولان‏:‏ الصلاة الوسطى صلاة الفجر أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً‏.‏ ولأنها بين صلاتي جمع فالظهر والعصر يجمعان وهما صلاتا نهار، والمغرب والعشاء يجمعان وهما صلاتا ليل وصلاة الفجر لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها ولأنها تأتي في وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف وفتور الأعضاء وكثرة النعاس وغفلة الناس عنها فخصت بالمحافظة عليها لكونها معرضة للضياع ولأن الله تعالى قال عقبها ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ والقنوت هو طول القيام وصلاة الفجر مخصوصة بطول القيام ولأن الله تعالى خصها بالذكر في قوله وقرآن الفجر ‏{‏إن قرآن الفجر كان مشهوداً‏}‏ يعني تشهده ملائكة النهار فهي مكتوبة في ديوان حفظة الليل وديوان حفظة النهار فدل ذلك على مزيد فضلها‏.‏ المذهب الثاني أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري ورواية عائشة وبه قال عبيدالله بن شداد وهو رواية عن أبي حنيفة ويدل على ذلك ما روي عن زيد بن ثابت وعائشة قالا‏:‏ الصلاة الوسطى صلاة الظهر، أخرجه مالك في الموطأ عن زيد والترمذي عنهما تعليقاً وأخرجه أبو داود عن زيد قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ولأن صلاة الظهر تأتي وسط النهار وفي شدة الحر ولأنها تأتي بين البردين يعني صلاة الفجر وصلاة العصر‏.‏ المذهب الثالث أنها صلاة العصر وهو قول علي وابن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة، وهو قول عبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وقال الترمذي‏:‏ هو قول أكثر الصحابة فمن بعدهم وقال الماوردي من أصحابنا‏:‏ هذا مذهب الشافعي لصحة الأحاديث فيه قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث ويدل على صحة هذا المذهب ما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب وفي رواية يوم الخندق

«ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وفي رواية «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» وذكر نحوه وزاد في أخرى «ثم صلاها بين المغرب والعشاء» أخرجاه في الصحيحين ‏(‏م‏)‏ عن ابن مسعود قال حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً» عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الصلاة الوسطى صلاة العصر» أخرجه الترمذي وله عن ابن مسعود مثله وقال في كل واحد منهما حسن صحيح ‏(‏م‏)‏ عن أبي يونس مولى عائشة قال أمرتني عائشة أن أكتب مصحفاً وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ قال فلما بلغتها آذنتها فأملت علي‏:‏ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروى عن حفصة نحو ذلك، ولأن صلاة العصر تأتي وقت اشتغال الناس بمعايشهم فكان الأمر بالمحافظة عليها أولى، ولأنها تأتي بين صلاتي نهار وهما الفجر والظهر وصلاتي ليل وهما المغرب والعشاء، وقد خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة والتغليظ لمن ضيعها، ويدل على ذلك ما روي عن أبي المليح قال‏:‏ كنا مع بريدة في غزوة فقال في يوم ذي غيم‏:‏ بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» أخرجه البخاري‏.‏ قوله بكروا بصلاة العصر أي قدموها في أول وقتها ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» قوله‏:‏ وتر أي نقص وسلب أهله وماله فبقي فرداً بلا أهل ولا مال ومعنى الحديث ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله‏.‏ المذهب الرابع أنها صلاة المغرب قاله قبيصة بن ذؤيب، وحجة هذا المذهب أن صلاة المغرب تأتي بين بياض النهار وسواد الليل، ولأنها ازيد من ركعتين كما في الصبح، وأقل من أربع، ولا تقصر في السفر وهي وتر النهار، ولأن صلاة الظهر تسمى الأولى لأن ابتداء جبريل كان بها، وإذا كانت الظهر أولى الصلوات كانت المغرب هي الوسطى‏.‏

المذهب الخامس أنها صلاة العشاء ولم ينقل عن أحد من السلف فيها شيء، وإنما ذكرها بعض المتأخرين، وحجة هذا المذهب أنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران وهما المغرب والصبح ولأنها أثقل صلاة على المنافقين‏.‏ المذهب السادس أن الصلاة الوسطى هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها لأن الله تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات الخمس ثم عطف عليها بالصلاة الوسطى، وليس في الآية ذكر بيانها، وإذا كان كذلك أمكن أن يقال في كل واحدة من الصلوات الخمس أنها هي الوسطى أبهمها الله على عباده مع ما خصها بمزيد التوكيد تحريضاً لهم على المحافظة على أداء جميع الصلوات على صفة الكمال والتمام ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في جميع أسمائه ليحافظوا على ذلك كله‏.‏ وهذا المذهب اختاره جمع من العلماء قال محمد بن سيرين إن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال حافظ على الصلوات كلها تصبها وسئل الربيع ابن خيثم عن الصلاة فقال للسائل الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى ثم قال أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظاً عليها ومضيعاً سائرهن فقال السائل لا فقال الربيع إنك أن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى‏.‏ والصحيح من هذه الأقوال كلها قولان قول من قال إنها الصبح وقول من قال إنها العصر وأصح الأقوال كلها أنها العصر للأحاديث الصحيحة الواردة فيها والله تعالى أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ أي طائعين فهو عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها قيل لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم طائعين، وقيل القنوت هو الدعاء والذكر بدليل‏:‏ ‏{‏أمن هو قانت‏}‏ ولما أمر بالمحافظة على الصلوات وجب أن يحمل هذا القنوت على ما فيها من الذكر والدعاء فمعنى الآية وقوموا لله داعين ذاكرين وقيل إنما خص القنوت بصلاة الصبح والوتر لهذا المعنى، وقيل‏:‏ القنوت هو السكوت عما لا يجوز التكلم به الصلاة، ويدل على ذلك ما روي عن زيد بن أرقم قال‏:‏ «كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جانبه في الصلاة حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وقوموا لله قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» أخرجاه في الصحيحين، وقيل‏:‏ القنوت هو طول القيام في الصلاة ويدل عليه ما روي عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أفضل الصلاة طول القنوت» أخرجه مسلم ومن القنوت أيضاً طول الركوع والسجود وغض البصر والهدوء في الصلاة وخفض الجناح والخشوع فيها وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن ان يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا إلاّ ناسياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏239‏]‏

‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ‏(‏239‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالاً‏}‏ أي رجالة ‏{‏أو ركباناً‏}‏ يعني على الدواب جمع راكب والمعنى إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين حقوق الصلاة من إتمام الركوع والسجود والخضوع والخشوع لخوف عدو أو غيره فصلوا مشاة على أرجلكم أو ركباناً على دوابكم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وهذا في حال المقاتلة والمسايفة في وقت الحرب‏.‏ وصلاة الخوف قسمان‏:‏ أحدهما أن يكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية، وقسم في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة‏}‏ وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في موضعه، فإذا التحم القتال ولم يكن تركه لأحد فمذهب الشافعي أنهم يصلون ركباناً على الدواب ومشاة على الأرجل إلى القبلة وإلى غير القبلة يؤمنون بالركوع والسجود ويكون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصياح فإنه لا حاجة إليه، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصلي الماشي بل يؤخر الصلاة ويقضيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق فصلى الظهر والعصر والمغرب بعدما غربت الشمس فيجب علينا الاقتداء به في ذلك واحتج الشافعي لمذهبه بهذه الآية‏.‏ وأجيب عن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق بانه لم يكن نزل حكم صلاة الخوف وإنما نزل بعد فلما نزلت صلاة الخوف لم يؤخر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صلاة قط، أما الخوف الحاصل لا في القتال بل بسبب آخر كالهارب من العدو أو قصده سبع هائج أو غشيه سيل يخاف على نفسه الهلاك لو صلى صلاة أمن فله أن يصلي صلاة شدة الخوف بالإيماء في حال العدو لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم‏}‏ مطلق يتناول الكل‏.‏ فإن قلت‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرجالاً أو ركباناً‏}‏ يدل على ان المراد منه خوف العدو حال القتال‏.‏ قلت هو كذلك إلاّ أنه هناك ثابت لدفع الضرر، وهذا المعنى موجود هنا فوجب أن يكون الحكم كذلك ها هنا روي عن ابن عباس قال‏:‏ «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أخرجه مسلم، وقد عمل بظاهر هذا جماعة من السلف منهم الحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وقتادة والضحاك وإبراهيم وإسحاق بن راهويه قالوا‏:‏ يصلي في حال شدة الخوف ركعة وقال الشافعي ومالك وجمهور العلماء صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات قال كان الخوف في الحضر وجب عليه أن يصلي أربع ركعات وإن كان في السفر صلّى ركعتين ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد به ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفرداً كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاة الخوف وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأحاديث‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم‏}‏ يعني من خوفكم ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ أي فصلوا لله الصلوات الخمس تامة بأركانها وسننها ‏{‏كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ فيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم ولولا هدايته وتعليمه إيانا لم نعلم شيئاً ولم نصل إلى معرفة شيء فله الحمد على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏240‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏240‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون منكم‏}‏ يعني يا معشر الرجال ‏{‏ويذرون أزواجاً‏}‏ يعني زوجات ‏{‏وصية لأزواجهم‏}‏ قرئ بالنصب على معنى فليوصوا وبالرفع على معنى كتب عليهم وصية ‏{‏متاعاً إلى الحول‏}‏ أي متعوهن متاعاً وقيل جعل الله لهن ذلك متاعاً والمتاع نفقة سنة لطعامها وكسوتها وما تحتاج إليه ‏{‏غير إخراج‏}‏ أي غير مخرجات من بيوتهن نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة ومعه أبواه وامرأته وله أولاد فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أبويه وأولاده ميراثه ولم يعط امرأته شيئاً وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً وكان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل اعتدت زوجته حولاً وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول وكانت نفقتها وسكناها واجبتين في مال زوجها تلك السنة وليس لها من الميراث شيء، ولكنها تكون مخيرة فإن شاءت اعتدت في بيت زوجها ولها النفقة والسكنى، وإن شاءت خرجت قبل تمام الحول وليس لها نفقة ولا سكنى، وكان يجب على الرجل أن يوصي بذلك فدلت هذه الآية على مجموع أمرين‏:‏ أحدهما أن لها النفقة والسكنى من مال زوجها سنة والثاني أن عليها عدة سنة ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين، أما الوصية بالنفقة والسكنى فنسخ بآية الميراث فجعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشراً‏.‏ فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة‏؟‏ قلت‏:‏ قد تكون الآية المتقدمة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول السفهاء من الناس‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد نرى تقلب وجهك في السماء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خرجن فلا جناح عليكم‏}‏ يعني يا معشر أولياء الميت ‏{‏في ما فعلن في أنفسهن من معروف‏}‏ يعني التزين للنكاح ولرفع الحرج عن الورثة وجهان‏:‏ أحدهما أنه لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول‏.‏ والوجة الثاني لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولاً غير واجب عليها خيرها الله تعالى بين أن تقيم في بيت زوجها حولاً ولها النفقة والسكنى وبين أن تخرج ولا نفقة لها ولا سكنى ثم نسخ الله ذلك بأربعة أشهر وعشراً ‏{‏والله عزيز‏}‏ أي غالب قوي في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده ‏{‏حكيم‏}‏ يني فيما شرع من الشرائع وبين من الأحكام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏241- 243‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏ إنما أعاد الله تعالى ذكر المتعة هنا لزيادة معنى وهو أن في تلك الآية بيان حكم غير الممسوسة وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة وقيل لأنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏حقاً على المحسنين‏}‏ قال رجل من المسلمين إن فعلت أحسنت وإن لم أرد أفعل فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏ فجعل المتعة لهن بلام التمليك وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حقاً على المتقين‏}‏ يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك وقد تقدم أحكام المتعة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته‏}‏ يعني يبين لكم ما يلزم ويلزم أزواجكم أيها المؤمنون وكما عرفتكم أحكامي والحق الذي يجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات كذلك أبين لكم سائر أحكامي في آياتي التي أنزلتها على محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ أي لكي تعقلوا ما بينت لكم من الفرائض والأحكام وما فيه صلاحكم وصلاح دينكم ا ه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ألم تر الذين الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فسلم الذين خرجوا وهلك أكثر من بقي بالقرية فلما ارتفع الطاعون رجع الذين خرجوا سالمين فقال الذين بقوا كان أصحابنا أحزم منا رأياً لو صنعا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن إلى أرض لا وباء فيها فرجع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح فلما نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وملك آخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عمر أنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه أن الوباء قد وقع بها فأخبره عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه» فحمد الله عمر ثم انصرف وقيل إنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جنبوا وكرهوا الموت فاعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي تأتيها بها وباء فلا تخرج حتى ينقطع منها الوباء فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا فراراً منه فلما رأى الملك ذلك قال‏:‏ اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلما خرجوا قال لهم موتوا عقوبة لهم فماتوا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فما أتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروحت أجسادهم فخرج الناس إليهم فعجزوا عن دفنهم فحظروا حظيرة دون السباع فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي ألم تعلم يا محمد بإعلامي إياك وهو من رؤية القلب قال أهل المعاني هو تعجيب له يقول هل رأيت مثل هؤلاء كما تقول ألم تر إلى صنيع فلان وكل ما في القرآن من قوله ألم تر ولم يعاينه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معناه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم ألوف‏}‏ قيل هو من العدد واختلفوا في مبلغ عددهم فقيل ثلاثة آلاف وقيل عشرة آلاف وقيل بضع وثلاثون ألفاً وقيل أربعون ألفاً وقيل سبعون ألفاً وأصح الأقوال قول من قال إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏هم ألوف‏}‏ والألوف جمع الكثير وجمع القليل آلاف وقيل معنى وهم ألوف مؤتلفون جمع ألف والأول أصح قالوا فمر عليهم مدة فبليت أجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم حزقيل بن بوذى هو ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى‏.‏ وذلك أن القيم بأمر بني إسرائيل بعد موسى ان يوشع بن نون ثم كان من بعده كالب بن يوقنا ثم قام من بعده حزقيل‏.‏ وكان يقال له ابن العجوز لأن أمة كانت عجوزاً فسألت الله تعالى الولد بعدما كبرت وعقمت فوهب الله لها حزقيل ويقال له ذو الكفل سمي به لأن تكفل سبعين نبياً وأنجاهم من القتل فلما مر حزقيل على هؤلاء الموتى وقف عليهم وجعل يفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك قال نعم يا رب فأحياهم الله تعالى وقيل دعا ربه حزقيل أن يحيهم فأحياهم الله تعالى وقيل أنهم كانوا قومه أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام وذلك أنه لما أصابهم ذلك خرج في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيداً لا قوم لي فأوحى الله إليه إني قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل احيوا بإذن الله فعاشوا، وقيل إنهم قالوا حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلاّ أنت ثم رجعوا إلى قومهم وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد دنساً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وإنها لتوجد اليوم تلك الريح في ذلك السبط من اليهود‏:‏ قال قتادة‏:‏ مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة لهم ثم بعثهم الله ليستوفوا بقية آجالهم ولو جاءت آجالم لما بعثوا‏.‏ فإن قلت كيف أميت هؤلاء مرتين في الدنيا وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ قلت إن موتهم كان عقوبة لهم كما قال قتادة وقيل إن موتهم وإحياءهم كان معجزة من معجزات ذلك النبي ومعجزات الأنبياء خوارق للعادات، ونوادر فلا يقاس فيكون قوله إلاّ الموتة الأولى عاماً مخصوصاً بمعجزات الأنبياء أي إلاّ الموتة الأولى التي ليست من معجزات الأنبياء ولا من خوارق العادات وفي هذه الآية احتجاج على اليهود ومعجزة عظيمة لنبينا صلى الله عليه وسلم حيث أخبرهم بأمر لم يشاهدوه وهم يعلمون صحة ذلك وفيه احتجاج على منكري البعث أيضاً إذ قد أخبر الله تعالى وهو الصادق في خبره انه أماتهم ثم أحياهم في الدنيا فهو تعالى قادر على أن يحييهم يوم القيامة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حذر الموت‏}‏ أي مخافة الطاعون وكان قد نزل بهم وقيل إنهم أمروا بالجهاد ففروا منه حذر الموت ‏{‏فقال لهم الله موتوا‏}‏ يحتمل أنهم ماتوا عند قوله تعالى ‏{‏موتوا‏}‏ ويحتمل أن يكون ذلك أمر تحويل فهو كقوله‏:‏

‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏{‏ثم أحياهم‏}‏ يعني بعد موتهم ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس‏}‏ يعني أن الله تعالى تفضل على أولئك الذين أماتهم باحيائهم لأنهم ماتوا على معصيته فتفضل عليهم بإعادتهم إلى الدنيا ليتوبوا وقيل هو على العموم فهو تعالى متفضل على كافة الخلق في الدنيا ويخص المؤمنين بفضله يوم القيامة ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ يعني ان أكثر من أنعم الله عليه لا يشكره أما الكافر فإنه لم يشكره أصلاً وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏244- 245‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏ قيل هو خطاب للذين أحيوا أحياهم الله ثم أمرهم بالجهاد فعلى هذا القول فيه إضمار تقديره وقيل لهم قاتلوا في سبيل الله وقيل هو خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء فلم ينفعهم ذلك ففيه تحريض للمؤمنين على الجهاد ‏{‏واعلموا أن الله سميع‏}‏ يعني لما يقوله المتعلل عن القتال ‏{‏عليم‏}‏ بما يضمره‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ القرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه فسمى الله تعالى عمل المؤمنين له قرضاً على رجاء ما وعدهم به من الثواب لأنهم يعلمون لطلب الثواب، وقيل‏:‏ القرض من ما أسلفت من عمل صالح أو شيء قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

كل امرئ سوف يجزى قرضة حسناً *** أو سيئاً أو مديناً كالذي دانا

وأصل القرض في اللغة القطع سمي به لأن المقرض يقطع من ماله شيئاً فيعطيه ليرجع إليه مثله ومعنى الآية من ذا الذي يقدم لنفسه إلى الله ما يرجو ثوابه عنده وهذا تلطف من الله تعالى في استدعاء عباده إلى أعمال البر والطاعة وقيل في الآية اختصار تقديره من ذا الذي يقرض عباد الله والمحتاجين من خلقه فهو كقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله‏}‏ أي يؤذون عباد الله، وكما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال‏:‏ يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين‏؟‏ قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي‏؟‏» الحديث، واختلفوا في المراد بهذا القرض، فقيل هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل هو الصدقة الواجبة قيل صدقة التطوع لأن الله تعالى سماه قرضاً والقرض لا يكون إلاّ تبرعاً ولما روى الطبري بسنده عن ابن مسعود قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ قال أبو الدحداح وأن الله يريد منا القرض‏؟‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم يا أبا الدحداح قال‏:‏ ناولني يدك فناوله يده قال‏:‏ فإني قد أقرضت ربي حائطي حائطاً فيه ستمائة نخلة ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك ق اخرجي من الحائط فإني قد أقرضته لربي، زاد غيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كم من عذق رداح لأبي الدحداح» وقيل في معنى يقرض الله أي ينفق في طاعته فيدخل فيه الواجب والتطوع وهو الأقرب حسناً يعني محتسباً طيبة به نفسه‏.‏

وقيل‏:‏ هو الإنفاق من المال الحلال في وجوه البر وقيل هو أن لا يمن بالقرض ولا يؤذي وقيل هو الخالص لله تعالى ولا يكون فيه رياء ولا سمعة ‏{‏فيضاعفه له‏}‏ يعني ثواب ما أنفق ‏{‏أضعافاً كثيرة‏}‏ قيل هو يضاعفه إلى سبعمائة ضعف، وقال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلاّ الله تعالى وهذا هو الأصح وإنما أبهم الله ذلك لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود ‏{‏والله يقبض ويبسط‏}‏ قيل يقبض بإمساك الرزق والتقتير على من يشاء ويبسط بمعنى يوسع على من يشاء وقيل يقبض بقبول الصدقة ويبسط بالخلف والثواب وقيل إنه تعالى لما أمرهم بالصدقة وحثهم على الإنفاق أخبر أنه لا يمكنهم ذلك إلاّ بتوفيقه وإرادته وإعانته والمعنى والله يقبض بعض القلوب حتى لا تقدر على الإنفاق في الطاعة وعمل الخير ويبسط بعض القلوب حتى تقدر على فعل الطاعات والإنفاق في البر‏.‏ كما روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك» أخرجه مسلم‏.‏ وهذا الحديث من أحاديث الصفات التي يجب الإيمان بها والسكوت عنها وإمراها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا إثبات جارحة، هذا مذهب أهل السنة وسلف هذه الأمة ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ يعني في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل‏}‏ الملأ أشراف القوم ووجوههم وأصله الجماعة من الناس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ‏{‏من بعد موسى‏}‏ أي من بعد موت أي من بعد زمنه منه ‏{‏إذ قالوا‏}‏ يعني أولئك الملأ ‏{‏لنبي لهم‏}‏ اختلفوا في ذلك النبي فقي لهو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب وقيل هو شمعون بن صفية بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب وإنما سمي شمعون لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاماً فاستجاب الله لها فولدت غلاماً فسمته شمعون ومعناه سمع الله دعائي وتبدل السين بالعبرانية شيناً وقال أكثر المفسرين هو أشمويل بن يال وقيل‏:‏ هو ابن هلفائي‏.‏ قيل إنه من ولد هارون ومعرفة حقيقة ذلك النبي بعينه ليست مرادة من القصة إنما المراد منها الترغيب في الجهاد وذلك حاصل‏.‏

ذكر الإشارة إلى القصة

كان سبب مسألة أولئك الملأ لذلك النبي أنه لما مات موسى عليه السلام خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم أمر الله تعالى‏.‏ ويحكم بالتوراة حتى قبضة الله تعالى‏.‏ ثم خلف من بعده كالب بن يوقنا كذلك، ثم حزقيل كذلك، حتى قبضه الله تعالى فعظمت الأحداث بعده في بني إسرائيل ونسوا عهد الله حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم إلياس نبياً فدعاهم إلى الله تعالى، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم ليجددوا ما نسوا من التوراة ويأمروهم بالعمل بأحكامها‏.‏ ثم خلف من بعد إلياس اليسع فكان فيهم ما شاء الله تعالى ثم قبضة الله تعالى‏.‏ ثم خلف من بعده خلوف وعظمت فيهم الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلثاثا وهم قوم جالوت وكانوا يسكنون ساحل البحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاماً، فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا كلهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً فولدت غلاماً فسمته أشمويل ومعناه بالعربية إسماعيل‏.‏ تقول‏:‏ سمع الله دعائي فلما كبر الغلام أسلمته لتعليم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام أتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جانب الشيخ وكان الشيخ لا يأمن عليه أحداً فدعاه جبريل بلحن الشيخ يا أشمويل‏!‏ فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ وقال‏:‏ يا أبتاه رأيتك تدعوني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام‏:‏ دعوتني فقال‏:‏ نم فإن دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له‏:‏ جبريل عليه السلام وقال له اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبياً فلما أتاها كذبوه وقالوا به استعجلت بالنبوة ولم تنلك وقالوا له إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية على نبوتك وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبياءهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم له أمره ويشير عليه ويرشده ويأتيه بالخبر من ربه‏.‏

قال وهب فبعث الله أشمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله‏}‏ جزم على جواب الأمر فلما قالوا له ذلك ‏{‏قال‏}‏ يعني قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏هل عسيتم‏}‏ هذا استفهام شك يقول لعلكم ‏{‏إن كتب‏}‏ أي فرض ‏{‏عليكم القتال‏}‏ يعني مع ذلك الملك ‏{‏أن لا تقاتلوا‏}‏ يعني لا تفوا بما قلتم وتجنبوا عن القتال معه ‏{‏قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله‏}‏‏.‏ فإن قلت ما وجه دخول أن والعرب لا تقول ما لك أن لا تفعل كذا ولكن تقول ما لك لا تفعل كذا‏.‏ قلت دخول أن وحذفها لغتان صحيحان فالإثبات كقوله‏:‏ ‏{‏ما لك أن لا تكون مع الساجدين‏}‏ والحذف كقوله ‏{‏ما لكم لا تؤمنون‏}‏ وقيل معناه‏:‏ وما لنا في أن لا نقاتل بحذف حرف الجر وقيل أن هنا زائدة ومعناه وما لنا لا نقاتل في سبيل الله ‏{‏وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا‏}‏ أي أخرج من غلب عليهم من ديارهم فظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص لأن الذين قالوا لنبيهم ابعث ملكاً كانوا في ديارهم وأبنائهم وإنما أخرج من أسر منهم ومعنى الآية أنهم قالوا لنبيهم إنا إنما كنا تركنا الجهاد لأنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا فأما إذا بلغ ذلك منا فنطيع ربنا في جهاد عدونا ونمنع نساءنا وأولادنا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏}‏ في الكلام حذف وتقديره فسأل الله ذلك النبي فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم القتال ‏{‏تولوا‏}‏ أي أعرضوا عن الجهاد وضيعوا أمر الله ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ يعني لم يتولوا عن الجهاد هم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة على ما سيأتي في قصتهم إن شاء الله تعالى ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏ يعني هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف أمر ربه ولم يف بما قال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً‏}‏ وذلك أن أشمويل سأل الله عز وجل أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس، وقيل له إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملكه عليهم واسم طالوت بالعبرانية ساول بن قيس من سبط بنيامين بن يعقوب‏.‏ وإنما سمي طالوت لطوله وكان أطول من جميع الناس برأسه ومنكبيه وكان طالوت رجلاً دباغاً يدبغ الأديم قاله وهب وقيل كان سقاء يستقي الماء على حمار فضلّ حماره فخرج يطلبه‏.‏ وقال وهب‏:‏ ضلت حمر لأبي طالوت فأرسله أبوه ومعه غلام في طلبها فمر على بيت أشمويل النبي فقال الغلام لطالوت لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا أو ليدعو لنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له حاجتهما إذ نش الدهن في القرن فقام أشمويل فقاس طالوت بالعصا فكانت على طوله فقال لطالوت قرب رأسك فقربه إليه فدهنه بدهن القدس‏.‏ وقال له‏:‏ أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فقال طالوت أوما علمت أن سبطي من أدنى أسباط بني إسرائيل قال‏:‏ بلى قال فبأي آية قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك ثم قال لبني إسرائيل إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً وقيل إنه جلس عنده وقال يا أيها الناس إن الله ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل إلى نبيهم أشمويل وقالوا له‏:‏ ما شأن طالوت تملك علينا وليس هو من بيت النبوة ولا المملكة وقد عرفت أن النبوة في سبط لاوي بن يعقوب والمملكة في سبط يهوذا بن يعقوب فقال لهم نبيهم أشمويل إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ‏{‏قالوا أنى يكون له الملك علينا‏}‏ أي من أين يكون له الملك وكيف يستحقه ‏{‏ونحن أحق بالملك منه‏}‏ إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان سبط نبوة وسبط مملكة فسبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون عليهما السلام وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان عليهما السلام ولم يكن طالوت من أحدهما‏.‏ وإنما من سبط بنيامين بن يعقوب فلهذا السبب أنكروا كونه ملكاً لهم وزعموا أنهم أحق بالملك منه ثم أكدوا ذلك بقولهم ‏{‏ولم يؤت سعة من المال‏}‏ يعني أنه فقير والملك يحتاج إلى المال ‏{‏قال‏}‏ يعني أشمويل النبي ‏{‏إن الله اصطفاه عليكم‏}‏ أي اختاره عليكم وخصه بالملك وفي هذه الآية دليل على بطلان قوم من زعم من الشيعة أن الإمامة موروثة وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة فرد الله عليهم وأعلمهم أن هذا شرط فاسد والمستحق للملك من خصه الله به ‏{‏وزاده بسطة‏}‏ أي فضيلة وسعة ‏{‏في العلم‏}‏ وذلك أنه كان من أعلم بني إسرائيل وقيل إنه أوحى إليه حين أوتي الملك وقيل هو العلم في الحرب ‏{‏والجسم‏}‏ يعني بالطول وذلك لأنه كان أطول من الناس برأسه ومنكبيه وقيل بالجمال وكان طالوت من أجمل بني إسرائيل وقيل المراد به القوة لأن العلم بالحروب والقوة على الأعداء مما فيه حفظ المملكة ‏{‏والله يؤتى ملكه من يشاء‏}‏ يعني أن الله تعالى لا اعتراض عليه لأحد في فعله فيحض بملكه من يشاء من عباده ‏{‏والله واسع‏}‏ يعني أن الله تعالى واسع الفضل والرزق والرحمة وسعت رحمته كل شيء ووسع فضله ورزقه كل خلقه والمعنى أنكم طعنتم في طالوت بكونه فقيراً والله واسع الفضل والرزق فإذا فوض إليه الملك فتح عليه أبواب الرزق والمال من فضله وسعته وقيل الواسع ذو السعة وهو الذي يعطي عن غنى ‏{‏عليم‏}‏ يعني أنه تعالى مع قدرته على إغناء الفقير عالم بما يحتاج إليه في تدبير نفسه وملكه والعليم هو العالم بما يكون وبما كان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏248‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ وذلك أنه سألوا أشمويل النبي فقالوا ما آية ملكه فقال‏:‏ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏.‏ وكانت قصة التابوت على ما ذكره علماء السير والأخبار أن الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام تابوتاً فيه صور الأنبياء عليهم السلام وكان التابوت من خشب الشمشاد طوله ثلاثة أذرع في عرض ذراعين فكان عند آدم ثم صار إلى شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم عليه السلام ثم كان عند إسماعيل لأنه كان أكبر أولاده ثم صار إلى يعقوب ثم كان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه ثم كان عنده إلى أن مات ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت أشمويل وكان في التابوت ما ذكر الله تعالى وهو قوله‏:‏ ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏ واختلفوا في تلك السكينة ما هي فقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي شيء يشبه الهرة له رأس كرأس الهرة وذنب كذنب الهرة وله جناحان، وقيل له عينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد، وكانوا إذا سمعوا صوته تيقنوا النصر، فكانوا إذ خرجوا وضعوا التابوت قدامهم، فإذا سار ساروا وإذا وقف وقفوا‏.‏ وقال ابن عباس هي طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء وقال وهب هي روح من الله تعالى تتكلم إذا اختلفوا في شيء فتخبرهم ببيان ما يريدون‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح هي ما يعرفون من الآيات التي يسكنون إليها وقال قتادة والكلبي هي فعلية من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا وسكنوا إليه وهذا القول أولى بالصحة فعلى هذا كل شيء كانوا يسكنون إليه فهو سكينة فيحمل على جميع ما قيل فيه لأن كل شيء يسكن إليه القلب فهو سكينة ولم يرد فيه نص صريح فلا يجوز تصويب قول وتضعيف آخر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون‏}‏ يعني موسى وهارون أنفسهما بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري‏:‏ «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» فالمراد به داود نفسه‏.‏ واختلفوا في تلك البقية التي ترك آل موسى وآل هارون فقيل رضاض من الألواح وعصا موسى قاله ابن عباس وقيل عصا موسى وعصا هارون وشيء من ألواح التوراة وقيل كانت العلم والتوراة‏.‏ وقيل كان فيه عصا موسى ونعلاه وعصا هارون وعمامته وقفيز من المن الذي ينزل على بني إسرائيل فكان التابوت عند بني إسرائيل يتوارثونه قرناً بعد قرن وكانوا إذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه فيتكلم ويحكم بينهم‏.‏

وكانوا إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فينصرون فلما عصوا وأفسدوا سلط الله عز وجل عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وأخذه منهم وكان السبب في ذلك أنه كان لعيلى وهو الذي ربى أشمويل ابنان شابان وكان عيلى حبر بني إسرائيل وصاحب قربانهم في زمنه فأحدث ابناه في القربان شيئاً لم يكن فيه وذلك أنه كان منوط القربان الذي ينوطونه كلابين فما أخرجا كانا للكاهن الذي كانا ينوطه فجعل ابناه كلاليب‏.‏ وكان النساء يصلين في بيت المقدس فيتشبثان بهن فأوحي إلى اشمويل‏:‏ أن انطلق إلى عيلى وقل له منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك عن أن يحدثا في قرباني وقدسي شيئاً وأن يعصياني فلأنزعن الكهانة منك ومن ولدك ولأهلكنك وإياهما‏.‏ فأخبره أشمويل بذلك ففزع وسار إليهم عدوهم من حولهم فأمر عيلى ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو فخرجا واخرجا معهما التابوت فلما تهيؤوا القتال جعل عيلى يتوقع الخبر فجاءه رجل فأخبره أن الناس قد انهزموا وقد قتل ابناه قال‏:‏ فما فعل في التابوت قال أخذه العدو‏.‏ وكان عيلى قاعداً على كرسيه فشهق ووقع على قفاه فمات فخرج أمر بني إسرائيل وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكاً فسألوا أشمويل البينة على صحة ملك الطالوت فقال لهم نبيهم يعني أشمويل‏:‏ إن الآية ملكه يعني علامة ملكة التي تدل على صحته أن يأتيكم التابوت وكانات قصة رجوع التابوت على ما ذكره أصحاب الأخبار أن الذين أخذوا التابوت من بني إسرائيل أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود فجعلوه في بيت أصنام لهم ووضعوه تحت الصنم الأعظم فأصحبوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وسمروا قدمي الصنم على التابوت فأصحبوا وقد قطعت يد الصنم ورجلاه وأصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت أصنامهم منكسة فأخرجوا التابوت من بيت الأصنام ووضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم‏.‏ فقال بعضهم لبعض أليس قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله على أهل تلك الناحية فأرة فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتاً قد أكلت ما في جوفه‏.‏ فأخرجوه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور والقولنج فتحيروا فيه فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم وهي من بنات الأنبياء‏:‏ لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم‏.‏ فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت عن علقوها في ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بالثورين أربعة أملاك يسوقونهما فأقبلا حتى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا نيريهما وقطعا حبالهما ووضعا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما ما لم يرع بني إسرائيل إلا والتابوت عندهم فكبروا وحمدوا الله تعالى‏.‏

‏{‏تحمله الملائكة‏}‏ أي تسوقه‏.‏ وقال ابن عباس جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت‏.‏ وقال الحسن كان التابوت مع الملائكة في السماء فلما ولي طالوت الملك حملته الملائكة ووضعته بينهم‏.‏ وقال قتادة بل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك فأقبلت الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره فأقروا بملكه ‏{‏إن في ذلك لآية لكم‏}‏ يعني قال لهم نبيهم أشمويل إن في مجيء التابوت تحمله الملائكة لآية لكم يعني علامة ودلالة على صدقي فيما أخبرتكم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ يعني مصدقين بذلك قال المفسرون فلما جاءهم التابوت وأقروا بالملك لطالوت تأهب للخروج إلى الجهاد فأسرعوا لطاعته وخرجوا معه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏249‏]‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏}‏ أي خرج وأصل الفصل القطع يعني قطع مسقترة شاخصاً إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل‏.‏ وقيل ثمانون ألفاً وقيل مائة وعشرون ألفاً ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فسارعوا إلى الخروج في الجهاد وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع الله ان يجري لنا نهراً ‏{‏فقال‏}‏ طالوت ‏{‏إن الله مبتليكم بنهر‏}‏ أي مختبركم به لتبين طاعتكم وهو أعلم بذلك قال ابن عباس هو نهر فلسطين وقيل هو نهر عذب بين الأردن وفلسطين ‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏}‏ أي فليس من أهل ديني وطاعتي ‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏ أي لم يذقه يعني الماء ‏{‏فإنه مني‏}‏ يعني من أهل طاعتي ‏{‏إلا من اغترف غرفة بيده‏}‏ قرئ بفتح الغين وضمها لغتان، وقيل الغرفة بالضم التي تحصل في الكف من الماء والغرفة بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر ‏{‏فشربوا منه‏}‏ يعني من النهر ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ قيل هم أربعة آلاف لم يشربوا منه وقيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً وهو الصحيح ويدل على ذلك ما روي عن البراء بن عازب قال‏:‏ «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتحدثون أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزه معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة» أخرجه البخاري قيل البضع هنا ثلاثة عشر، فلما وصلوا إلى النهر ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل وكان من اغتراف منه غرفة كما أمره الله تعالى كفته لشربه وشرب دوابه وقوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً والذين شربوا منه وخالفوا أمر الله تعالى اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وجبنوا وبقوا على شط النهر ولم يجاوزه، وقيل جاوزوه كلهم ولكن الذين شربوا لم يحضروا القتال وإنما قاتل أولئك القليل الذين لم يشربوا وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاوزه هو‏}‏ يعني جاوز النهر طالوت ‏{‏والذين آمنوا معه‏}‏ يعني أولئك القليل ‏{‏قالوا‏}‏ يعني الذين شربوا من النهر وخالفوا أمر الله تعالى وكانوا أهل شك ونفاق فعلى هذا يكون قد جاوز النهر مع طالوت المؤمن والمنافق والطائع والعاصي فلما رأوا العدو قال المنافقون ‏{‏لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏ فأجابهم المؤمنون بقولهم ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة‏}‏ وقيل لم يجاوز النهر مع طالوت إلا المؤمنون خاصة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه‏}‏‏.‏ فإن قلت فعلى هذا القول من القائل ‏{‏لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏‏.‏

قلت يحتمل أن يكون أهل الإيمان وهم الثلاثمائة وبضعة عشر انقسموا إلى قسمين قسم حين رأوا العدو وكثرتة وقلة المؤمنين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده فأجابهم القسم الآخر بقولهم ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين‏}‏ ومعنى لا طاقة لنا لا قوة لنا اليوم بجالوت وجنوده ‏{‏قال الذين يظنون‏}‏ أي يستيقنون ويعملون ‏{‏إنهم ملاقو الله‏}‏ أي ملاقو ثواب الله ورضوانه في الدار الآخرة ‏{‏كم من فئة قليلة‏}‏ الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط ‏{‏غلبت فئة كثيرة بإذن الله‏}‏ أي بقضاء الله وإرادته ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ يعني بالنصر والمعونة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏250‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولما برزوا‏}‏ يعني طالوت وجنوده المؤمنين ‏{‏لجالوت وجنوده‏}‏ يعني الكافرين ومعنى برزوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى منها ‏{‏قالوا‏}‏ يعني المؤمنين أصحاب طالوت ‏{‏ربنا أفرغ‏}‏ أي اصبب ‏{‏علينا صبراً وثبت أقدامنا‏}‏ أي قو قلوبنا لتثبت أقدامنا ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ وذلك أن جالوت وقومه كانوا يعبدون الأصنام فسأل المؤمنون الله أن ينصرهم على القوم الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏251‏]‏

‏{‏فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏‏}‏

‏{‏فهزمهم بإذن الله‏}‏ يعني أن الله تعالى استجاب دعاء المؤمنين فأفرغ عليهم الصبر وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين حين التقوا فهزموهم بإذن الله يعني بقضائه وإرادته وأصل الهزم في اللغة الكسر أي كسروهم وردوهم ‏{‏وقتل داود جالوت‏}‏ وكانت قصة قتله ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار أنه عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً له وكان داود أصغرهم وكان يرمي بالقذافة فقال داود لأبيه يوماً يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته، فقاله له أبوه أبشر يا بني فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى فقال‏:‏ يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبته وأخذت بأذنه فلم يهجني فقال له أبوه‏:‏ أبشر يا بني فإن هذا خير يريده الله بك، ثم أتاه يوماً آخر فقاله له‏:‏ يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلاّ سبح معي فقال‏:‏ يا بني أبشر فإن هذا خير أعطاكه الله تعالى‏.‏ قالوا فأرسل جالوت الجبار إلى طالوت ملك بني إسرائيل أن ابرز إلي وأبرز إلي من يقاتلني‏.‏ فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فشق ذلك على طالوت ونادى في عسكره من قتل جالوت زوجته ابنتي وناصفته ملكي فهاب الناس جالوت فلم يجبه أحد فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله في ذلك فدعا الله فأتي بقرن فيه دهن القدس وتنور حديد‏.‏ وقيل له إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي إذا وضع هذا القرن على رأسه سال على رأسه حتى يدهن من رأسه ولا يسيل على وجهه بل يكون على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه فدعا طالوت بني إسرائيل وجربهم فلم يوافقه أحد منهم فأوحى الله إلى نبيهم إن في ولد إيشا من يقتل جالوت فدعا طالوت إيشا وقال له أعرض على بنيك فأخرج له اثني عشر رجلاً امثال السواري فجعل يعرض واحداً واحداً على القرن فلا يرى شيئاً فقال لإيشا هل بقي لك ولد غير هؤلاء فقال لا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا رب إنه قد زعم أنه لا ولد غيرهم فقال له كذب فقال له النبي‏:‏ إن ربي قد كذبك، فقال إيشا‏:‏ صدق ربي يا نبي الله إن لي ولداً صغيراً مسقاماً اسمه داود استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته فجعلته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا وكان داود عليه السلام رجلاً قصيراً مسقاماً أزرق أمعر مصفراً فدعا به طالوت ويقال إنه خرج إليه فوجده في الوادي وقد سال الوادي ماء وهو يحمل شاتين شاتين يعبر بهما السيل إلى الزريبة التي يريح فيها غنمه، فلما رآه طالوت قال هذا هو الرجل المطلوب لا شك فيه فهذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه طالوت ووضع القرن على رأسه فنش وفاض فقال له طالوت هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي قال نعم فقاله له‏:‏ هل أنست من نفسك شيئاً تتقوى به على قتله قال نعم أنا أرعى الغنم فيجيء الأسد أو النمر أو الذئب فيأخذ شاة من الغنم فأقوم فأفتح لحييه عنها وأخرجاه من قفاه، فأخذ طالوت داود ورده إلى العسكر، فمر داود عليه السلام في طريقه بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون فحمله ثم مر بحجر آخر‏.‏

فقال يا داود احملني فغني حجر موسى فحمله ثم مر بحجر آخر فقال له‏:‏ يا داود احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت، فحمله فوضع الثلاثة في مخلاته، فلما رجع طالوت إلى العسكر ومعه داود وتصافوا للقتال برز جالوت يطلب المبارزة فانتدب له داود عليه السلام فأعطى داود فرساً وسلاحاً فلبس السلاح وركب الفرس وسار قريباً ثم رجع إلى طالوت فقال من حوله‏:‏ جبن الغلام فجاء فوقف على طالوت فقاله له ما شأنك فقال له داود عليه السلام إن لم ينصرني ربي لم يغن هذا السلاح عني شيئاً وإن نصرني فلا حاجة لي به فدعني أقاتل كما أريد قال نعم فأخذ داود مخلاته وتقلدها وأخذ المقلاع بيده ومضى نحو جالوت وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة حديد وزنها ثلاثمائة رطل فلما نظر إلى داود وهو يريده وقع الرعب في قلبه فقال له‏:‏ جالوت وأنت تبرز لي قال‏:‏ نعم وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام فقال‏:‏ اتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب فقال‏:‏ نعم وأنت شر من الكلب‏.‏ قال جالوت‏:‏ لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطير السماء، فقال داود عليه السلام‏:‏ أو يقسم الله لحمك، ثم قال داود‏:‏ باسم إله إبراهيم، وأخرج حجراً ثم قال بإسم إله إسحاق وأخرج حجراً ثم قال بإسم إله يعقوب وأخرج حجراً ووضعها في مقلاعه فصارت الثلاثة حجراً واحداً، وأدار داود المقلاع ورمى به جالوت فسخر الله له الريح فحملت الحجر حتى أصاب أنف البيضة فخلط دماغ جالوت وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلاً، وخر جالوت صريعاً قتيلاً، فأخذ داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح بنو إسرائيل بذلك فرحاً شديداً وهزم الله الجيش فرجع طالوت بالناس إلى المدينة سالمين غانمين وجعل الناس يذكرون داود إلى طالوت وقال له‏:‏ أنجز لي ما وعدتني به فقال له أتريد ابنة الملك بغير صداق فقال له داود ما شرطت علي صداقاً وليس لي شيء فقال‏:‏ لا أكلفك إلاّ ما تطيق أنت رجل جريء وفي حيالنا أعداء لنا غلف فإن قتلت مائتي رجل وجتني بغلفهم زوجتك ابنتي فأتاهم فجعل كلما قتل واحداً منهم نظم غلفته في خيط حتى نظم مائتي غلفة فجاء بها إلى الطالوت وألقاها بين يديه وقال ادفع إلى امرأتي فزوجه ابنته وأجرى خاتمه في ملكه، فمال الناس إلى داود عليه السلام وأحبوه وأكثروا ذكره فحسده طالوت وأراد قتله فأخبر بذلك ابنة طالوت رجل يقال له ذو العينين فأخبرت بذلك داود وقالت له‏:‏ إنك مقتول الليلة قال ومن يقتلني قالت‏:‏ أبي قال‏:‏ وهل أجرمت جرماً يوجب القتل قالت حدثني بذلك من لا يكذب ولا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك فقال إن كان يريد ذلك فلا أستطيع خروجاً ولكن ائتني بزق خمر فأتته به فوضعه في مضجعه على سريره وسجاه ودخل داود تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل فقال لابنته أين بعلك قالت هو نائم على سريره فضربه بالسيف فسال الخمر فلما وجد ريح الخمر قال يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر وخرج، فلما أصبح علم أنه لم يفعل شيئاً فقال‏:‏ إن رجلاً منه ما طلبت لحقيق أن لا يدعني حتى يدرك ثأره مني فاشتد حجابه وحراسه وأغلق دونه أبوابه، ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله عنه الحجاب ففتح الأبواب ودخل عليه وهو نائم على فراشه، فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه وسهماً عن يمينه وسهماً عن شماله وخرج فاستيقظ طالوت فبصر بالسهام فعرفها فقال يرحم الله داود هو خير مني ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكف عني ولو شاء ولوضع هذا السهم في حلقي وما أنا بالذي آمنه فلما كان من الليلة القابلة أتاه ثانياً فأعمى الله عنه الحجاب فدخل عليه وهو نائم فأخذ إبريق وضوئه وكوزه الذي يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من طرف ثوبه ثم خرج وتوارى، فلما أصبح طالوت ورأى ذلك سلط على داود العيون وطلبه أشد، الطلب فلم يقدر عليه‏.‏

ثم إن طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله وركض في أثره فاشتد داود في عدوه‏.‏ وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال‏:‏ لو كان دخل هنا لتخرق هذا النسج وانطلق طالوت وتركه فخرج داود حتى أتى جبل المتعبدين فتعبد معهم وطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلاّ قتله فقتل خلقاً كثيراً من العباد والعلماء حتى أتى بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز فلم يقتلها، وقال‏:‏ لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها ثم وقع في قلب طالوت التوبة والندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس‏.‏

وكان كل ليلة يخرج إلى القبور ويبكي وينادي أنشد الله عبداً يعلم لي توبة إلاّ أخبرني بها فلما كثر ذلك منه ناداه مناد من القبور‏:‏ يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتاً فازداد حزناً وبكاء فتوجه الخباز إلى طالوت لما رأى من حاله وقال‏:‏ ما لك أيها الملك فأخبره وقال‏:‏ هل تعلم لي توبة أو تعلم في الأرض عالماً أسأله عن توبتي فقاله له الخباز أيها الملك إن دللتك على عالم يوشك أن تقتله فقال لا فتوثق منه باليمين فأخبره أن تلك المرأة العالمة عنده‏.‏ فقال‏:‏ انطلق بي إليها لأسألها عن توبتي قال نعم فانطلق به فلما قربا من الباب قال له الخباز‏:‏ أيها الملك إنها إذا رأتك فزعت ولكن ائت خلفي فلما دخلا عليها قال لها الخباز‏:‏ يا هذه ألست تعلمين حقي عليك‏؟‏ قالت‏:‏ بلى قال فإن لي إليك حاجة فتقضيها قالت نعم قال هذا طالوت قد جاءك يسأل هل له من توبة فلما سمعت بذكر طالوت غشى عليها فلما أفاقت قالت والله ما أعلم له توبة ولكن دلوني على قبر نبي فانطلقوا بها إلى قبر أشمويل فوقفت عليه ودعت وكانت تعلم الاسم الأعظم ثم قالت يا صاحب القبر فخرج ينفض التراب عن رأسه فلما نظر إلى ثلاثتهم قال‏:‏ ما لكم أقامت القيامة قالت المرأة لا ولكن هذا طالوت قد جاء يسألك هل له من توبة فقال أشمويل‏:‏ يا طالوت ما فعلت بعدي قال لم أدع من الشر شيئاً إلا فعلته وجئت أطلب التوبة فقال أشمويل يا طالوت كم لك من الولد قال عشرة رجال قال ما أعلم لك من توبة إلاّ أن تتخلى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل أنت حتى تقتل آخرهم‏.‏ ثم إن أشمويل سقط ميتاً ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه بنوه على ما يريد‏.‏ وكان قد بكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فجمع أولاده وقال لهم‏:‏ أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تنقذونني منها فقالوا بلى ننقذك بما نقدر عليه قال‏:‏ فإنها النار إن لم تفعلوا ما آمركم به قالوا‏:‏ اعرض علينا ما أردت فذكر لهم القصة قالوا‏:‏ وإنك لمقتول قال نعم قالوا فلا خير لنا في الحياة بعدك قد طابت أنفسنا بالذي سألت‏.‏ فتجهز هو وولده وخرج طالوت مجاهداً في سبيل الله فتقدم أولاده فقاتلوا حتى قتلوا ثم شد هو من بعدهم فقاتل حتى قتل وجاء قاتل طالوت إلى داود فبشره بقتله وقال له‏:‏ قد قتلت عدوك فقال داود‏:‏ ما أنت بباق بعده وقتله فكان ملك طالوت إلى أن قتل مدة أربعين سنة فأتى بنو إسرائيل إلى داود فملكوه عليهم وأعطوه خزائن طالوت‏.‏

قال الكلبي والضحاك ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاّ على داود فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتاه الله الملك والحكمة‏}‏ يعني النبوة جمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل بل كانت النبوة في سبط والملك في سبط وقيل الحكمة هي العلم مع العمل به ‏{‏وعلمه مما يشاء‏}‏ أي وعلم الله داود صنعة الدروع فكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل إلاّ من عمل يده، وقيل علمه منطق الطير وقيل علمه الزبور وقيل هو الصوت الطيب والألحان ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوت داود فكان إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير مصيخة له ويركد الماء الجاري وتسكن الرياح عند قراءته، وقيل علمه سياسة الملك وضبطه، وذلك لأنه لم يكن من بيت الملك حتى يتعلمه من آبائه، وقال ابن عباس هو أن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرة ورأسها عند صومعته قوتها قوة الحديد ولونها لون النور وحلقها مستديرة مفصلة بالجوهر مدسرة بقضبان اللؤلؤ الرطب فكان لا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة فيعلم داود ذلك الحدث ولا يمسها ذو عاهة إلاّ برئ‏.‏ وكانوا يتحاكمون إليهما بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدى على صاحبه أو أنكره حقاً أتى السلسلة فمن كان صادقاً مديدة إلى السلسلة فنالها ومن كان كاذباً لم ينلها فكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخبث‏.‏ فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما طالبه بالوديعة أنكره إياها فتحاكما إلى السلسلة، فعند الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وجعل الجوهرة فيها واعتمد عليها حتى أتيا السلسلة فقال صاحب الجوهرة‏:‏ رد على الوديعة فقال صاحبه ما أعرف لك عندي وديعة فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة فتناولها بيده وقال للمنكر قم أنت أيضاً فتناولها فقال لصاحب الجوهرة أمسك عكازتي فأخذها الرجل منه وقام المنكر إلى السلسلة وقال‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أن الوديعة التي يدعيها قد وصلت إليه فقرب السلسلة مني ومد يده فتناولها فعجب القوم من ذلك وشكوا فيها فأصحبوا وقد رفع الله السلسلة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‏}‏ يعني ولو أن الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الإيمان والطاعة بعضاً وهم أهل الكفر والمعاصي قال ابن عباس ولولا دفع الله بجنوده المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد وقيل معناه ولو دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار ‏{‏لفسدت الأرض‏}‏ يعني لهلكت بمن فيها ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن لله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ ‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏ يعني إن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام وإفضال عم الناس كلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏252- 253‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

‏{‏تلك آيات الله‏}‏ يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وهي التابوت وإهلاك الجبابرة على يد صبي ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏}‏ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ يعني حيث تخبر بهذه الأخبار العجيبة والقصص القديمة من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار فدل ذلك على أنك من المرسلين وأن الذي تخبر به وحي من الله تعالى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تلك الرسل‏}‏ يعني جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة ‏{‏فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ فيه دليل على زوال الشبهة لمن أوجب التسوية بين الأنبياء في الفضيلة لاستوائهم في القيام بالرسالة وأجمعت الأمة على أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض وأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم لعموم رسالته وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً‏}‏ ‏{‏منهم‏}‏ أي من الرسل ‏{‏من كلم الله‏}‏ أي كلمة الله وهو موسى عليه السلام ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم رفع الله منصبه ومرتبته على كافة سائر الأنبياء بما فضله عليهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات فما أوتي نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا أوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء بآيات ومعجزات أخر مثل انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع الذي حن عند مفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم له شاهدة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من الآيات والمعجزات التي لا تحصى كثرة، وأعظمها وأظهرها معجزة وآية القرآن العظيم الذي عجز أهل الأرض عن معارضته والإتيان بمثله فهو معجزة باقية إلي يوم القيامة ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من نبي من الأنبياء إلاّ وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قلبي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت للناس إلى الناس عامة» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت الى الخلائق كافة وختم بي النبيون»

فإن قلت لم ذكره على سبيل الرمز والإشارة ولم يصرح باسمه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قلت‏:‏ في هذا الإبهام والرمز من تفخيم فضله وإعلاء قدره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى لما فيه من الشهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه ولا يلتبس فهو كما يقول الرجل وقد فعل شيئاً فعله بعضكم أو أحدكم ويريد نفسه فيكون أفخم من التصريح به كما سئل الخطيئة‏:‏ من أشعر الناس‏؟‏ قال زهير والنابغة‏.‏ ثم قال لو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ يعني الحدد والأدلة الباهرة والمعجزات على نبوته مثل إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى ‏{‏وأيدناه بروح القدس‏}‏ أي وقويناه بجبريل عليه السلام فكان معه إلى أن رفعه إلى عنان السماء السابعة‏.‏ فإن قلت لم خص موسى وعيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء‏.‏ قلت لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله تعالى وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية عظيمة وتأييد عيسى بروح القدس آية عظيمة أيضاً فلما أوتي موسى وعيسى من الآيات العظيمة خصا بالذكر في باب التفضيل فعلى هذا كل من كان من الأنبياء أعظم آيات وأكثر معجزات كان أفضل ولهذا أحرز نبينا صلى الله عليه وسلم قصبات السبق في الفضل لأنه أعظم الأنبياء آيات وأكثرهم معجزات فهو أفضلهم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي ولو أراد الله وأصل المشيئة الإرادة ‏{‏ما اقتتل الذين من بعدهم‏}‏ يعني بعد الرسل الذين وصفهم الله ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه ‏{‏ولكن اختلفوا‏}‏ يعني اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل ‏{‏فمنهم من آمن‏}‏ أي ثبت على إيمانه بالله ورسوله بفضل الله ‏{‏ومنهم من كفر‏}‏ أي ومنهم من تعمد الكفر بعد قيام الحجة وبعثة الرسل ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتلوا‏}‏ أي ولو أراد الله أن يحجزهم عن الاقتتال والاختلاف لحجزهم عن ذلك ‏{‏ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏ يعني أنه تعالى يوفق من يشاء لطاعته والإيمان به فضلاً منه ورحمة ويخذل من يشاء عدلاً منه لا اعتراض عليه في ملكه وفعله‏.‏ سأل رجل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن القدر فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر فقال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فأعاد السؤال فقال‏:‏ سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏254- 255‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم‏}‏ قيل أراد به الزكاة الواجبة وقيل أراد به صدقة التطوع والإنقاق في وجوه الخير ‏{‏من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه‏}‏ أي لا فدية وإنما سماه بيعاً لأن الفداء شراء النفس من الهلاك، والمعنى قدموا لأنفسكم اليوم من أموالكم من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فيكسب الإنسان ما يفتدي به من العذاب ‏{‏ولا خلة‏}‏ أي ولا مودة ولا صداقة ‏{‏ولا شفاعة‏}‏ وظاهر هذا يقتضي نفي الخلة والشفاعة وقد دلت النصوص على ثبوت المودة والشفاعة، بين المؤمنين فيكون هذا عاماً مخصوصاً ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم‏}‏‏.‏

فصل في فضل هذه الآية الكريمة

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» أخرجه الترمذي‏.‏ قوله‏:‏ إن لكل شيء سناماً‏.‏ سنام كل شيء أعلاء تشبيهاً بسنام البعير والمراد منه تعظيم هذه السورة والسيد الفاضل في قومه والشريف والكريم وأصله من ساد يسود وقوله هي سيدة أي القرآن أفضله‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك اعظم‏؟‏ قلت‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم‏}‏ فضرب في صدري وقال‏:‏ ليهنك العلم يا أبا المنذر» عن واثلة بن الأسقع‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ أخرجه أبو داود‏.‏ وقال العلماء‏:‏ إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقومية والملك والقدرة والإرادة، فهذه أصول الأسماء والصفات، وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور فما كان ذكراً له من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار وفي هذا الحديث حجة لمن يقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة، ومنع من جواز تفضيل بعض القرآن على بعض جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني قالا لأن تفضيل بعضه على بعض يقتضي نقص المفضول، وليس في كلام الله عز وجل نقص وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق لفظ أعظم وافضل على بعض الآيات أو السور بمعنى عظيم وفاضل، ومن أجاز تفضيل بعض القرآن على بعض من العلماء والمتكلمين قالوا‏:‏ هذا التفضيل راجع إلى عظم أجر القارئ أو جزيل ثوابه وقول‏:‏ إن هذه الاية أو هذه السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر وهذا هو المختار وهو معنى الحديث والله أعلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ ليلته تلك حتى يصبح» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب‏.‏ وأما التفسير فقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو‏}‏ نفي الإلهية عن كل ما سواه وثبت الإلهية له سبحانه وتعالى فهو كقولك لا كريم إلاّ زيد فإنه أبلغ من قولك زيد كريم الحي يعني الباقي على الأبد الدائم بلا زال، الحي في صفة الله تعالى وهو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد حياة، وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والعدم فكل شيء هالك إلاّ وجهه سبحانه وتعالى‏.‏ القيوم قال مجاهد‏:‏ القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه تعالى قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه وقيل وهو القائم الدائم بلا زوال الموجود الذي يمتنع عليه التغير وقيل هو القائم على كل نفس بما كسبت والقيوم فيعول من القيام وهو نعت للقائم على الشيء ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ السنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى نعاساً وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان والنوم هو الثقل المزيل للعقل والقوة‏.‏ وقيل‏:‏ السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فالسنة هي أول النوم والنوم هو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء والمعنى لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم لأن النوم والسهو والغفلة محال على الله تعالى لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم وذلك نقص وآفة والله تعالى منزه عن النقص والآفات، وأن ذلك تغير والله تعالى منزه عن التغير، ‏(‏م‏)‏ عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بخمس كلمات فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور» وفي رواية‏:‏ «النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»‏.‏

شرح ما يتعلق بلفظ هذا الحديث منقول من شرح مسلم للشيخ محيي الدين النووي قوله صلى الله صلى عليه وسلم‏:‏ «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» فمعناه الإخبار أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه لأن النوم انغمار وغلبة على العقل يسق به الإحساس والله تعالى منزه عن ذلك وقوله‏:‏ «يخفض القسط ويرفعه» أراد بالقسط الميزان الذي يقع به العدل ومعناه أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أعمال العباد المرتفعة إليه وقيل أراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ومعنى يخفض يقبض ويضيق على من يشاء ويرفعه أي يوسعه على من يشاء وقوله‏:‏ «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار» يعني أن الحفظة من الملائكة يصعدون بأعمال العباد في الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في اول الليل قوله‏:‏ «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» سبحات بصم السين المهملة والباء الموحدة تحت وبضم التاء في آخره جمع سبحة، ومعنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه والحجاب أصله في اللغة المنع وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد، فالمراد به هنا الشيء المانع من الرؤية، وسمي ذلك الشيء المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من في قوله من خلقه لبيان الجنس لا للتبعيض ومعنى الحديث لو زال المانع وهو الحجاب المسمى نوراً أو ناراً وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته هذا آخر كلام للشيخ على هذا الحديث والله أعلم‏.‏

وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ إن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله تعالى‏؟‏ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فامسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما فجعل ينعس وينتبه وهما في يده في كل يد واحدة حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر إنما هو مثل ضربة الله تعالى له يقول فكذلك السموات والأرض، ورواه عن أبي هريرة مرفوعاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال‏:‏ «وقع في نفس موسى هل ينام الله» وذكر نحو حديث ابن عباس قال بعض العلماء‏:‏ إن صح هذا الحديث فيحمل على أن هذا السؤال كان من جهال قوم موسى كطلب الرؤية من موسى لأن الأنبياء عليهم السلام هم أعلم بالله من غيرهم فلا يجوز أن ينسب لموسى مثل هذا السؤال والله تعالى أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ يعني أن الله تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم وهم عبيده وفي ملكه‏.‏

فإن قلت لم قال له ما في السموات ولم يقل من في السموات‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان المراد إضافة كل ما سواه إليه من الخلق والملك وكان الغالب فيهم من لا يعقل أجرى الغالب مجرى لكل فعبر عنه بلفظ ما ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه‏}‏ أي بأمره وهذا استفهام إنكاري والمعنى لا يشفع عنده أحد إلاّ بأمره وإرادته، وذاك لأن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلاّ ما استثناه بقوله ‏{‏إلاّ بإذنه‏}‏ يريد بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ يعني ما بين أيديهم من الدنيا وما خلفهم من الآخرة وقيل بعكسه لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا وراء ظهورهم وقيل يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم وقيل يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما هم فاعلوه والمقصود من هذا أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه‏}‏ يقال‏:‏ أحاط بالشيء إذا علمه وهو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وحقيقته، فإذا علمه ووقف عليه وجمعه في قلبه فقد أحاط به والمراد بالعلم المعلوم والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ بما شاء‏}‏ يعني أن يطلعهم عليه وهم من الأنبياء والرسل ليكون ما يطلعهم عليه من علم غيبه دليلاً على نبوتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول‏}‏ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ يقال فلان وسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وأصل الكرسي في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي في العرف اسم لما يقعد عليه سمي به لترك خشباته بعضها على بعض‏.‏ واختلفوا في المراد بالكرسي هنا على أربعة اقوال‏:‏ أحدها أن الكرسي هو العرش نفسه قال الحسن لأن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه‏.‏ القول الثاني أن الكرسي غير العرش وهو أمامه وهو فوق السموات السبع ودون العرش قال السدي إن السموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي في جنب العرش قال السدي إن السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقيل إن كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات والارض وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى‏:‏ ملك على صورة أبي البشر آدم هو يسأل الرزق والمطر لبني آدم من السنة إلى السنة، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة، وملك على صورة الثور وهو يسأل الرزق للانعام من السنة إلى السنة وملك على صورة السبع وهو يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة‏.‏

وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت الكرسي من نور حملة العرش‏.‏ القول الثالث‏:‏ إن الكرسي هو الاسم الأعظم لأن العلم يعتمد عليه‏.‏ كما أن الكرسي يعتمد عليه قال ابن عباس كرسيه علمه‏.‏ القول الرابع‏:‏ المراد بالكرسي الملك والسلطان والقدرة لأن الكرسي موضع الملك والسلطان فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسي على سبيل المجاز ‏{‏ولا يؤوده‏}‏ أي لا يثقله لوا يجهده ولا يشق عليه ‏{‏حفظهما‏}‏ أي حفظ السموات والأرض ‏{‏وهو العلي‏}‏ أي الرفيع فوق خلقه الذي ليس فوقه شيء فيما يجب له أن يوصف به من معاني الجلال والكمال فهو العلي بالإطلاق المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد وقيل معنى العلو في صفة الله تعالى منقول إلى اقتداره وقهره واستحقاق صفات المدح جميعها على كل وجه وقيل معناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين ‏{‏العظيم‏}‏ يعني أنه ذو العظمة والكبرياء الذي لا شيء أعظم منه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ العظيم الذي قد كمل في عظمته وقيل العظيم هو ذو العظمة والجلال والكمال وهو في صفة الله تعالى ينصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام‏.‏